بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده رسوله، صلى الله عليه، وعلى آله، وخلفاءه، وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: يعتقد أهل السنّة والجماعة بأن صفات الله تعالى كلها صفات كمال، لا نقص فيها بوجه من الوجوه، فهي توقيفية على القرآن والأثر، فلا مجال للعقل فيها، فيجب الوقوف فيها على ما جاء به القرآن والأثر، فلا يُزاد فيها ولا ينقص، لأن العقل لا يمكنه إدراك ما يستحقه تعالى من الأسماء فوجب الوقوف في ذلك على النص لقوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} وقوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}. ولأن تسميته أو وصفه تعالى بما لم يسم أو وصف به نفسه، أو إنكار ما سمى أو وصف به نفسه، جناية في حقه تعالى فوجب سلوك الأدب في ذلك والاقتصار على ما جاء به النص.
وهذا خلاف التعبير عن الرب تعالى بما عبَّر به عن نفسه، أو بما عبر به النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -، أو بما ورد عن الصحابة - رضوان الله عليهم -، فالأولى عدم تجاوز عبارات السلف في ذلك، فإن التعبير بخلاف الوصف، فإن الوصف توقيفي - كما تقدم -، وأما الإخبار عن الله ليس توقيفياً على الإطلاق.
لذلك يجوز القول: "إن الله موجود"، فهذا التعبير، ليس وصفاً مما اتفق عليه العلماء، وهو ما نص عليه الحافظ ابن القيم، إذ قال: "إن ما يطلق عليه في باب الأسماء والصفات توقيفي، وما يطلق عليه من الإخبار لا يجب أن يكون توقيفياً، كالقديم، والشيء، والموجود، والقائم بنفسه".
انظر: بدائع الفوائد، 1/162.
لذلك يجب إثبات كل ما أثبته الله لنفسه وما أثبته به رسوله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - من الصفات، لأن نفي أي صفة عن الله تعالى من غير سبب يقتضيه لا يكون مدحاً له، بل ذماً، إذ إن النفي لا يكون إلا بوجه العموم، فإن تفصيل النفي من غير سبب يقتضي تفصيله فيه نقص للموصوف لا كمال، وسخرية واستهزاء لا مدح. على عكس الإثبات تماماً، فالتفصيل في الإثبات – ولو من غير سبب يقتضيه – فيه كمال للموصوف لا نقص، ومدحاً لا سخرية. كما إن التفصيل في الإثبات مع الإجمال في النفي، يكون مدحاً بالغاً.
فلو أنك مدحت أميراً فقلت له: "أنت كريم، وسياسي محنك، وعادل الحكم"، ونحو ذلك من التفصيل في صفات المدح لإظهار محاسنه، لستحسن قولك وقربك. ولو قلت: "أنت كريم، وسياسي محنك، وعادل الحكم، ليس في أمراً الدنيا في عصرك وسلاطينها أحد مثلك"، لكان هذا من أعظم الثناء عليه لأنه مدحاً بالغاً فصل في الإثبات وأجمل النفي فيه. ولكن، لو قلت: "أنت غير بخيل، ولا سياسي طائش، ولا ظالم الحكم" ونحو ذلك في التفصيل في النفي التي لا تليق به؛ لستقبح قولك وأبعدك لأن هذا القول يعد سخرية منه استهزاء به وتنقصاً من مكانته.
وفي ذلك يقول الحافظ ابن القيم: "ومما ينبغي أن يعلم أن كل سلب ونفي لا يتضمن إثباتاً، فإن الله لا يوصف به، لأنه عدم محض، ونفي صرف لا يقتضي مدحاً ولا كمالاً ولا تعظيماً ولهذا كان تسبيحه وتقديسه – سبحانه – متضمناً لعظمته، ومستلزماً لصفات كماله، ونعوت جلاله، وإلا فالمدح بالعدم المحض كلا مدح، والعدم في نفسه ليس بشيء يمدح به، ويحمد عليه، ولا يكسب القلب علماً بالمذكور، ولا محبة وقصداً له، ولهذا كان عدم السِّنةِ والنوم مدحاً وكمالاً في حقه سبحانه لتضمنه واستلزامه كمال حياته وقيوميته، ونفي اللغوب عنه كمال لاستلزامه كمال قدرته وقوته، ونفي النسيان عنه كمال لتضمنه، كمال علمه، وكذلك نفي عزوب شيء عنه، ونفي الصاحبة والولد كمال لتضمنه كمال غناه وتفرده بالربوبية وأن من في السموات والأرض عبيد له، وكذلك نفي الكفؤ والسمي، والمثل عنه كمال: لأنه يستلزم ثبوت جميع صفات الكمال له على أكمل الوجوه واستحالة وجود مشارك له فيها فالذين يصفونه بالسلوب فقط من الجهمية والفلاسفة لم يعرفوه من الوجه الذي عرفته به الرسل وعرفوه إلى الخلق وهو الوجه الذي يحمده به ويثني عليه ويمجد وتعرف به عظمته وجلاله وإنما عرفوه من الوجه الذي يقودهم إلى تعطيل العلم والمعرفة والإيمان به بعدم اعتقادهم الحق واعتقادهم خلاف الحق وحقيقة أمرهم أنهم لم يثبتوا لله عظمة إلا ما تخيلوه في نفوسهم من السلوب والنفي الذي لا عظمة فيه ولا مدح فضلا عن أن يكون كمالا بل ما أثبتوه مستلزم لنفي ذاته رأساً".
انظر: الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، 4/1369-1371.
ومن جملة الصفات التي يجب إثباتها لله صفة العلو. وذلك لقوله تعالى: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ}
وقول رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض؛ يرحمكم من في السماء". والحديث أخرجه البخاري في الأدب المفرد وأحمد في مسنده وأبو داود والترمذي والحاكم في المستدرك عن ابن عمر، زاد أحمد في مسنده والترمذي والحاكم في المستدرك "والرحم شجنة من الرحمن: فمن وصلها وصله الله، ومن قطعها قطعه الله" وهذه الزيادة صحيحه صححها الألباني. ورواه الطبراني بإسناد جيد عن جرير مرفوعاً: "من لا يرحم من في الأرض لا يرحمه من في السماء"، ومن شواهده أيضاً ما رواه أحمد وعبد بن حميد في مسنديهما والطبراني وغيرهم بسند جيد عن ابن عمر.
قال الإمام الألباني: "رجاله ثقات"
أنظر: السلسلة الصحيحة /925.
وقال أيضاً: "صحيح"
أنظر: صحيح أبي داود /4132.
وقال الإمام الترمذي: "هذا الحديث حسن صحيح".
أنظر: سنن الترمذي وشرح العلل /1989.
ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره. وكذلك صححه الحاكم لما له من الشواهد.
إذا أريد بـ"السماء" في قوله تعالى: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء}، وقول رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم -: "... من في السماء" العلو فـ "في" للظرفية وهو أن الله جل وعلا في العلو بائن من خلقه سبحانه وتعالى عالٍ على مخلوقاته بائن من خلقه، فالمعنى صحيح.
وإن أريد بـ"السماء" السماء المبنية وهي السبع الطباق فمعنى "في" هنا: بمعنى "على"؛ فالمعنى صحيح أيضاً، فإنه - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: "ارحموا من في الأرض" أي: على الأرض. فكذلك "يرحمكم من في السماء" أي: على السماء سبحانه وتعالى. وهذا مثل قوله تعالى: {فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ} وقوله عن فرعون: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} فإن "في" في هاتين الآيتين بمعنى "على". به ذهب الإمام الألباني، إذ قال: "كلمة في هنا - أي في الحديث - بمعنى على"
أنظر: السلسلة الصحيحة /925.
وقد يتوهم بعض أهل البدع، بأن أهل السنّة والجماعة أثبتوا لله المكان، وهذا القول باطل، وذلك إن لفظ "مكان" لم يثبت لا في القرآن ولا في السنة، فيجب الوقوف عند هذا الفظ . فإذا أريد بـ"ـالمكان" العلو، فالمعنى صحيح واللفظ خطأ. فإذا أريد بـ"ـالمكان" مكان ما في المواقع؛ أي: إن الله قد حل واختلط في الأماكن، فالمعنى خطأ وكذلك اللفظ.
وفي ذلك يقول الإمام الألباني: "إلا أنه مع ذلك لا ينبغي إطلاق لفظ الجهة والمكان ولا إثباتهما، لعدم ورودهما في الكتاب والسنة، فمن نسبهما إلى الله فهو مخطئ لفظاً، إن أراد بهما الإشارة إلى إثبات صفة العلو له تعالى، وإلا فهو مخطئ معنى أيضاً إن أراد حصره تعالى في مكان وجودي، أو تشبيهه تعالى بخلقه".
أنظر: مختصر العلو، ص72.
وقال فضيلة الشيخ ابن العثيمين: "الله ليس له مكان ما في المواقع...، الله منزه عن المكان باتفاق جميع العلماء الإسلام، لماذا؟ لأن الله كان ولا شيء معه، وهذا معروف في الحديث (الذي رواه) البخاري: "كان الله ولا شيء معه"، معناه: كان ولا مكان له؛ لأنه هو الغني عن العالمين، هذه حقيقة متفق عليها...".
أنظر: منهاج أهل السنة والجماعة في العقيدة والعمل، ص132-133.
فنفي المتفلسفة من أهل البدع المكان عن الله جل جلاله، نتيجة لفهمهم للمكان. إذ إن الفلاسفة اتفقوا بأن المكان ينقسم إلى أربعة أقسام هي؛ المكان العقلي، والمكان الحسّي، والمكان الطبيعي والمكان المطلق.
فالمكان العقلي هو الذي نتخيله في العقل عندما نتصور الأشكال الهندسية، فقالت بعض المتفلسفة بأن لله مكاناً بهذا المعنى، ومنهم الفيلسوف "كانت" الذي قال: "ليس له مثل هذا الوجود، بل هو من فرض عقولنا".
انظر: معاني الفلسفة ص109.
وقد سلك هذا المذهب أهل الفلسفة المحضة من الكلامية، فقالوا بأن الله لا داخل العالم ولا خارجه، ولا متصل به ولا منفصل عنه، ولا مباين له ولا محايث، فالله عندهم ليس إلا حقيقة ذهنية، ولا وجود له في الواقع. فهم في الحقيقة يعبدون عدماً، كما ورد عن جماعة من السلف والأئمة منهم ابن المبارك وعلي المديني، وجماعة من أهل العلم والتحقيق والسنة، وقد نقل عنهم عباراتهم شيخ الإسلام ابن تيمية، وقال: "إن المجسمة يعبدون صنماً، والمعطلة يعبدون عدماً".
انظر: مجموع الفتاوى، 5/52-53.
أما المكان الحسي هو الذي تحط به بالحواس، وهو خاص بالنسبة لنا، وهذا المكان أمراً نسبياً تتفاوت من شخص إلى آخر، فلو حل الرجل في مكان ما، ويستطيع هذا الرجل أن يحيط بالمكان بحواسه، صار ذاك المكان بالنسبة إليه مكاناً حسياً، فإن لم يستطع الحلول في ذاك المكان أو عجزت حواسه الإحاطة بالمكان، صار ذاك المكان بالنسبة له مكاناً طبيعياً، والذي هو المكان العام الذي تقوم فيه الأجسام وتتحرك، وهو عام بالنسبة لنا.
فالجهمية يعتقدون بالحلول وأن الله تعالى حال في كل مكان، وكذلك أصحاب المذهب الفلسفي وحدة الوجود، فهم يعتقدون بأن الله والطبيعة حقيقة واحدة، وأن الله هو الوجود الحق، ويعتبرونه صورة هذا العالم المخلوق، أما مجموع المظاهر المادية فهي تعلن عن وجود الله دون أن يكون لها وجود قائم بذاته.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية بعد أن ذكر كثيراً من أقوال أصحاب مذهب وحدة الوجود: "يقولون: إن الوجود واحد، كما يقول ابن عربي - صاحب الفتوحات - وابن سبعين وابن الفارض والتلمساني وأمثالهم - عليهم من الله ما يستحقونه - فإنهم لا يجعلون للخالق سبحانه وجوداً مبايناً لوجود المخلوق. وهو جامع كل شر في العالم، ومبدأ ضلالهم من حيث لم يثبتوا للخالق وجوداً مبايناً لوجود المخلوق وهم يأخذون من كلام الفلاسفة شيئاً، ومن القول الفاسد من كلام المتصوفة والمتكلمين شيئاً ومن كلام القرامطة والباطنية شيئاً فيطوفون على أبواب المذاهب ويفوزون بأخس المطالب، ويثنون على ما يذكر من كلام التصوف المخلوط بالفلسفة".
انظر: جامع الرسائل 1/167.
أما المكان المطلق فهو مطلق من حيث أنه لا بداية له أو نهاية.
فتلك الفرق الضالة قد جعلوا العقل أصلاً من أصول العلم وجعلوا الوحي تابعاً له، بل حكموه في نصوص الوحي فلا يقبل منها إلا ما أيده العقل ووافقه ويدفع منها ما عارضه وخالفه. فما وافق أصولهم العقلية – أو ما يسمونه بالقواطع العقلية – قبلوه وأخذوا به، وما خالف ذلك ردوه أو أولوه، مع إن مدارك العقول مختلفة متفاوتة. فإن أهل الكلام قد تأثروا بالمدارس الفلسفية التي ظهرت في العصر الهلليني.
فإن المدارس في العصر الهلليني – بعد أرسطو – عكفت على شرح نصوص أفلاطون وأرسطو والتعليق عليها، بل ونسبت آراء مزعومة إلى الفيلسوفين وحاكت حولهما وحول سقراط والسابقين عليه أشتاتاً من القصص والأساطير الخرافية، وقد ظهرت على وجه العموم نزعة تلفيقية واضحة، فانقسمت مدرسة أفلاطون إلى مدرستين:
واحدة في أثينا بزعامة أبرقلس، والثاني في الشام بزعامة يامبليخوس. وتواجه المدرسة الأولى نهايتها في أثينا على يد جيستنيان في أوائل القرن السادس الميلادي فيفلا فلاسفتها إلى جنديسايور حيث يستضيفهم كسرى وهناك يعكفون على نقل التراث اليوناني إلى اللغة الفارسية.
وأما الفرع الثاني فيستمر فلاسفته في إكمال سلسلة الأفلاطونية المحدثة بعد أن اعتنقوا النصرانية، واختص السريان منهم بنقل التراث اليوناني إلى السريانية. وحينما طلب المأمون نقل كتب الفلسفة بعد حلم يقال أنه رأى فيه أرسطو وكأنه يحفزه فيه إلى أن ينقل كتب الفلسفة إلى العربية، أو بدافع من نشأته العقلية وانتسابه لمذهب المعتزلة وما صاحبها على عهده من محن لأهل السنة والجماعة بسبب فتنة خلق القرآن. وقد تلطخ المأمون المتشيع بالقول بخلق القرآن، فامتحن الناس بالقول بخلق القرآن؛ وذاك لجهله بالله، وعمى عنه، وضلالة عن حقيقة دينه – عليه من الله ما يستحق -، فلم يجد المأمون حوله غير السريان وفي جملتهم حنين بن إسحاق وابنه إسحاق وقسطا بن لوقا البعلبكي وغيرهم ممن حذقوا اليونانية والسريانية والعربية، فكان النقل أولاً من السريانية إلى العربية ثم اتجه النقلة بعد ذلك إلى الترجمة من اليونانية إلى العربية مباشرة. ولكن هذه الحركة لم تتجه في غالب الأمر إلى المصادر الأولى للفلسفة اليونانية إذ كانت مكتبات القسطنطينية تضن بها على فلاسفة الشرق من السريان وغيرهم وتعتبرها من الأسرار والكنوز التي لا يحق لغير البيزنطيين وعلمائهم الاحتفاظ بها، والدليل على ذلك أن كتب أرسطو الحقيقة ترجمت إلى اللاتينية بعد فرار علماء القسطنطينية إلى غرب أوروبا أثر اقتحام محمد الفاتح لها.
إذاً، أن النقلة من السريان اقتصرت جهودهم على نقل مصنفات العصر الهلليني بما تضمنته من تلفيقات وأخطاء ظهر أثرها الشنيع في أهل الكلام عند المسلمين بحث إن هذه الفلسفات والتلفيقات أعاقت التطور الطبيعي للعقل الإسلامي بل وحبست انطلاقه إلى حين.
انظر: تاريخ الفكر الفلسفي، لمحمد علي بوريان، ص30-31.
فإن أهل الكلام في الحقيقة أتباع المنطق اليوناني، الذي هو عمدتهم في تحكيم العقل ابتداء وانتهاء في جميع المسائل العقدية بمعزل عن النقل، واعتبار النظر أو القصد إلى النظر أو الشك أول واجب على المكلف وليس الإيمان الذي هو مقتضى الشرع والفطرة والعقل الصريح الصحيح، فغلا هؤلاء في العقل وقدموه على النقل وجعلوا النقل تابعاً لا متبوعاً، فما وافق عقولهم من النصوص قبلوه، وما خالف عقولهم ردوه أو حرفوه بما يسمى التأويل.
وهذا كله من كيد الشيطان، إذ يقول الحافظ ابن القيم : " ومن حيله ومكايده – أي: الشيطان –: الكلام الباطل، والآراء المتهافتة، والخيالات المتناقضة، التي هي زبالة الأذهان، ونحاتة الأفكار، والزبد الذي يقذف به القلوب المظلمة المتحيرة، التي تعدل الحق بالباطل، والخطأ بالصواب، وقد تقاذفت بها أمواج الشبهات، ورانت عليها غيوم الخيالات، فمركبها القيل والقال، والشك والتشكيك، وكثرة الجدال ليس لها حاصل من اليقين يعول عليه، ولا معتقد مطابق للحق يرجع إليه: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} فقد اتخذوا لأجل ذلك القرآن مهجوراً، وقالوا من عند أنفسهم، فقالوا منكراً من القول وزوراً، فهم في شكهم يعمهون، وفي حيرتهم يترددون، نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، واتبعوا ما تلته الشياطين على ألسنة أسلافهم من أهل الضلال، فهم إليه يحاكمون، وبه يتخاصمون، فارقوا الدليل واتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل.
ومن كيده بهم وتحيله على إخراجهم من العلم والدين: أن ألقى على ألسنتهم أن كلام الله ورسوله ظواهر لفظية لا تفيد اليقين، وأوحى إليهم أن القواطع العقلية والبراهين اليقينية: في المنهاج الفلسفية، والطرق الكلامية.
فحال بينهم وبين اقتباس الهدى واليقين من مشكاة القرآن، وأحالهم على منطق اليونان، وعلى ما عندهم من الدعاوى الكاذبة العرية عن البرهان، وقال لهم: تلك علوم قديمة صقلتها العقول والأذهان، ومرت عليها القرون والأزمان، فانظر كيف تلطف بكيده ومكره حتى أخرجهم من الإيمان، كإخراج الشعرة من العجين".
انظر: إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان، 1/195-196.
فالله تعالى، منزه من جميع أقوال هؤلاء أفراخ فلاسفة اليونان، فهو منزه من أن يكون في مكان العقلي والحسي والطبيعي؛ لأن الله تعالى لا تحوزه المخلوقات؛ إذ هو أعظم وأكبر، بل قد وسع كرسيه السماوات والأرض، فقد قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}، وثبت في الصحيحين وغيرهما عن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – أنه قال: "يقبض الله الأرض ويطوي السماوات بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض".
ومع كلٍّ، فالمكان موضوع نسبي يرجع الأمر في الحكم عليه إلى تقديراتنا البشرية، فإذا كان يراد بالمكان شيء موجود غير الله، فيكون مخلوقاً، وبذلك يكون الله داخل في شيء من المخلوقات محدود، فهذا باطل، لأن الله تعالى فوق خلقه لا يحصره ولا يحطه به شيء من المخلوقات، فإنه بائن من المخلوقات، كما أخبرنا جل وعلا في قوله {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء} بمعنى الاسِتعْلاء.
ومن أدلة أهل السنّة على علو الله، ما رواه الإمام مسلم عن معاوية بن الحكم السلمي؛ إن رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - سأل جارية: "أين الله؟" قالت: في السماء. قال "من أنا؟" قالت: أنت رسول الله. قال "أعتقها. فإنها مؤمنة".
قال الإمام الدارمي: "ففي حديث رسول الله هذا دليل على أن الرجل إذا لم يعلم أن الله عز وجل في السماء دون الأرض فليس بمؤمن، ولو كان عبداً فأعتق لم يجز في رقبة مؤمنة، إذ لا يعلم أن الله في السماء، ألا ترى أن رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - جعل أمارة إيمانها، معرفتها أن الله في السماء، وفي قول رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -: "أين الله؟" تكذيب لقول من يقول: هو في كل مكان، لا يوصف بـ"أين"، لأن شيئاً لا يخلو منه مكان يستحيل أن يقال: أين هو؟ ولا يقال أين؟ إلا لمن هو في مكان، يخلو منه مكان ولو كان الأمر كما يدعي هؤلاء الزنادقة لأنكر عليها رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - قولها وعملها، ولكنها عملت به فصدقها رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -، وشهد لها بالإيمان بذلك، ولو كان في الأرض كما هو في السماء لم يتم إيمانها حتى تعرفه في الأرض كما عرفته في السماء. فالله تبارك وتعالى فوق عرشه فوق سماواته، بائن من خلقه، فمن لم يعرفه بذلك لم يعرف إلهه الذي يعبد، وعلمه من فوق العرش بأقصى خلقه وأدناهم واحد لا يبعد عنه شيء".
أنظر: الرد على الجهمية ص17-18.
ويقول محمد خليل الهراس: "هذا الحديث يتألق ناصعة ووضوحها، وهو صاعقة على رؤوس أهل التعطيل فهذا رجل أخطأ في حق جاريته بضربها، فأراد أن يكفر عن خطيئته بعتقها، فاستمهله الرسول - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - حتى يمتحن إيمانها، فكان السؤال الذي اختاره لهذا الامتحان هو: "أين الله؟" ولما أجابت بأنه في السماء، رضي جوابها وشهد لها بالإيمان. ولو أنك قلت لمعطل: أين الله؟ لحكم عليك بالكفران".
أنظر: حاشية التوحيد لابن خزيمة ص121.
ومن أدلة أهل السنّة على إثبات صفة العلو، قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}
وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ}
وقوله تعالى: {اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ}
وقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}
وقوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً}
وقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ}
وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}
وقد ذكر الحافظ ابن القيم كلاماً لا يشقه غبار عن الاستواء، إذ قال:" إن الاستواء في لغة العرب نوعان: مطلق، ومقيد. فالمطلق ما لم يوصل معناه بحرف مثل قوله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} وهذا معناه كمل وتم.
وأما المقيد؛ فثلاثة أضرب:
الأول: المقيد بـ"إلى"؛ كقوله تعالى {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء}، واستوى فلان إلى السطح وإلى الغرفة، وهذا بمعنى العلو والارتفاع بإجماع السلف.
الثاني: مقيد بـ"على"؛ كقوله تعالى: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} وقوله: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} وهذا معناه - أيضاً -: العلو، والارتفاع، والاعتدال؛ بإجماع أهل اللغة.
الثالث: المقرون بواو المعية، التي تعدي الفعل إلى المفعول معه؛ نحو: استوى الماء والخشبة. بمعنى: ساواها". ا.هـ.
هذا والله أسأل أن يصعد هذا ذروة القبول، ويجعله خالصاً لذاته الكريمة، وينفع به من ضل عن سبيله، ويرخي على زلات جامعة من عفوه وعافيته وغفرانه ورضوانه أطول الذيول.
أسأل الله تعالى أن يجعلنا من دعاة الحق وأنصاره وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا إتباعه ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه انه على كل شيء قدير. والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين والتابعين بإحسان إلى يوم الدين.